كنت كلما أراه، ذاك الرجل المربوع القامة ، صاحب الوجة البابلي الجميل ، يبتسم ، كأن وجهه محكوم علية بأبتسامة أبدية ، خلال عقدين تقريبا من السنيين حين ألتقيه . يسألني بمرارة : أين الكتاب ؟ أركن الى أعذار مشبوهة وأبادر بتسيير الحديث الى جهة أخرى ، يستجيب الرجل لرغباتي الماكرة ويتفتح مثل مشتل أزهار يتحدث بصفاء عن التاريخ وعن الوعي المزيف وعن الثقافة وعن أحلام الناس ..... يتكلم بلهجة لم يهزمها ضغط الواقع الذي لا يطاق ، يمتلك موهبة "روزخون" ماهر في سرد الاحداث ، لم أرّ واحدا ً مثله في حياتي به شغف جنوني للكتاب ، يتأسى للكآبات التي نخرت قلوب البشر ، يتأسى للفواجع التي صبت على رؤوس الفقراء ، يتأسى للمصائب التى نزلت على الصحارى والاهوار والجبال . يخبيء بكتمان شديد الحزن لوعاته الخاصة ومصاعبه الاقتصادية . في نهاية لقاءاتنا القصيرة الشحيحة أتهيأ لأستحضار أعذار أخرى ، أتوقع سيسألني بمضض : أين الكتاب الذي أستعرته مني .. أنه كتاب علي ؟!
يمضي بعينين مثل بركتين ذاهلتين في طريق الاحلام دون وجل أو خوف الى أبعد الحدود ، لا يشعر بوحشة دروب الحرية لقلة سالكيها ، ما زال وجهه حيا ً في ذاكرتي كأنه نخلة .حين ألتقيت شقيقه الدكتور علي ، الشاعر القلق والاعلامي المتوتر مثل سهم على وشك الانطلاق في مدخل جريدة " بغداد " في يوم مضى ، مثلت أمامه مثل متهم ، عرفته بنفسي كسارق ، أنا سارق كتابك "مائة عام من العزلة " تأملني بدهشة من خلف عدستيّ نظارته الكبيرتين اللتين تجعلانه هرما أكثر بكثير من سنه ، بعدقليل أطلق كركرة بلورية : أهو أنت ؟! ضمنى الى صدره بحنان أخوي .. فجأة خطف منك يا علي ومنا ذاك البهي ، ضاع منا عاشق الكتاب قاسم عبد الامير عجام في غمرة الخراب الجميل ، مزقت قلبه "الجمار" طلقات لئيمة عجز أصحابها أن يكونوا في يوم من الايام نشطاء في حقل الوئام الانساني ، هنالك صرع قاسم وهو يبذر الحب لأجل أن ينبعث في جميع الاخاديد والطرق عابقا ً برائحة النبل وخلف في قلوبنا سلاءات حزن ، هئنذا أعترف بأن الكتاب ما زال بحوزتي يتدفق منه الضوء ولكن ما عساي أن أفعل ، سأذهب الى المقهى العتيق ، مقهى "حسن عجمي " وكما ألتقيته أول مرة في قيظ ظهيرة غابرة لنبدأ صداقة ستستمر حتى الفراق ، أجلس أنتظر وأنتظر محتبساً كرة من الدموع ، لعل الرجل المربوع القامة يأتي ، أعطيه الكتاب وأعتذر ، لا سوف لن أعتذر لأننا يا صديقي أصبحنا جميعا ً مثل كتب مسروقة !!
النص نشر في مواقع عدة بينها "الحوار المتمدن"وعنوانه الاصلي "اسرار الكتب المسروقة".
|