محمد غازي الاخرس* لم يكن ثمة من يتوقع ماحدث صبيحة أمس: أن يقتل مثقف مثل قاسم عبد الامير عجام، في لحظة أشبه بلحظة ولوج الكابوس، لحظة إختلط فيها الدم بالتراب و الحلم بالحقيقة حد ان الوجوه إلتبست بالاقنعة و الارواح تاهت بحثاً عن نقطة الخلاص. في الوقت ذاته، لم يكن الامر مستبعداً بالمرة، فثمة في العراق الان قوى ظلامية لا تفرق بين القلم و البندقية، ليست مصادفة أن يقتل " أبو ربيع " أمام داره في الوقت الذي يقتل فيه رئيس مجلس الحكم عز الدين سليم في بغداد. هذا سياسي و له مريدون وأتباع، وذاك مثقف له تلامذة و أبناء، المسألة واحدة : قتل الاخر لاسكاته و تغييب أثره فيما البلاد تكاد تغلي بالمتغيرات التي لن يكون آخرها استلام العراقيين للسيادة بعد الثلاثين من حزيران.
ما الذي يعنيه هذا؟ و لم تستهدف الحياة باكبر قيمها؟ هل كان العالم ليصدق ما يحدث الان؟ هل على المثقف العراقي الان أن يسارع لشراء مسدس من نوع " ميكاروف " و الاحتفاظ به عند الضرورة ؟ كيف استقبل عجام قتلته أمام باب داره ؟ هل تراه فوجئ بوجوههم الملثمة و بنادقهم المصوبة ؟ هل حاول المقاومة – مثلاً – ام تراه استسلم لمصيره و ابتسم، قائلاً –هيا اقتلوني فقد اتعبكم انتظاري ؟
هذه الاسئلة كانت انبثقت في ذهني منذ الصباح، فالزميلة سوسن الجزراوي قد باغتتني و أنا أهم بشرب كوب من الماء في مدخل البناية الصغيرة التي طالما زارها " أبو ربيع " طوال العام الماضي، قالت : لقد قتلوا قاسم عجام ثم انسحبت كأنها خجلى من نقل هذه الفاجعة .
كنت ما أزال منتعشاً بمقال كتبته الخميس الماضي، عن قاسم عبد الامير عجام إذ كان كلف قبلها بيومين بتولي إدارة "دار الشؤون الثقافية". المقال كان محاولة لاعادة الاعتبار لمثقف انزوى عن الخراب طويلاً وهو اليوم يأخذ حقه الطبيعي، وسبب انتعاشي بالمقال هو تلك المشاعر الجياشة التي انتابت الرجل حين قرأه. هذا ما أخبرني به صديقي الشاعر علي عبد الامير، تلميذه و ربيبه و شقيق روحه، قال أن " أبا ربيع لم يتمالك روحه النقية فدمعت عيناه وهو يقرأ العبارات " و إذ سمعت ذلك، لم أتمالك، أنا الاخر مشاعري، فرحت أتخيل اللقاء المقبل مع عجام، قلت لنفسي " في اللقاء المقبل سيشكرني و سأرد عليه بما يثلج صدره "، سأقول له مثلاً أن ما كتبته لا يمثل شيئاً ذا بال في مسيرة حافلة بالشرف مثل مسيرتك.
بيد أن هذا اللقاء لم يحدث بل أظنه سيتحول الى " حسرة " تملأ علي صدري و روحي. قبل ذلك، أي في يوم الاربعاء الماضي، كنت حملت أوراقي وذهبت الى دار الشؤون الثقافية، قلت لموظف طيب كان جالساً في الاستعلامات أنني أريد لقاء المدير الجديد، قلت له أنه صديقي، هكذا بثقة و يقين " إنه صديقي " رغم أنه يكبرني بأثنين و عشرين سنة. بيد أنه كان غادر، قبل دقائق، الى مبنى الوزارة. سأتذكر مثلاً - لسوف أتذكر الان ذكريات عديدة، سأتذكر – مثلاً – أنني بعد أن عدت الى العراق في العام الماضي، فوجئت، ذات يوم، بالشاعر رعد كريم عزيز و هو يبلغني تحيات قاسم عجام, وكان انتخبه الاصدقاء في الحلة رئيساً لاتحاد ادبائهم.
قاسم عجام ( يسار) ورعد كريم عزيز ومحمد غازي الاخرس (يمين) في اتحاد ادباء بابل
كان الرجل أعد برنامجاً لاماس تقام هناك، ولشدما كانت فرحتي عظيمة إذ ابلغت رسمياً بانني أحد الذين ادرجت أسماؤهم في البرنامج. في الامسية المذكورة، كان الرجل في مقدمة المحتفين، قلت لنفسي أن علي عبد الامير يبدو محقاً بتلك العبارات التي طالما كان يرددها و مفادها أنه ليس سوى ثمرة من ثمرات أخيه.
ذات مرة، و فيما كان " أبو ربيع " ضيفاً في غرفة " أبي سلام " الذي هو رئيس تحرير صحيفتنا، بادر الاخير الى تذكيري بالفكرة نفسها قائلاً – هذا هو استاذي، فضحك الاخ الاكبر و أجاب – لا تتواضع، أنا لست استاذاً لاحد. بدا الامر حينئذ و كأن الرجل يدفع عن نفسه تهمة ما، تهمة تربية الاخرين، بما في ذلك شقيقه الذي فاقه شهرة حين هاجر من العراق.
مقالاته تملك سلطة الحكم النهائي حول قيمة الاعمال الدرامية
المقصود هنا أن قاسم عجام مثّل أكثر من كونه ناقداً ذا توجهات يسارية, كان بالاحرى مؤثراً كبيراً، لا على نطاق عائلته حسب، إنما في نطاق قرائه في سبعينيات القرن العشرين و ثمانينياته، أقول هذا و في ذهني الان والدي الذي تلقيت تعازي ال عجام بوفاته قبل أشهر، كنت ما أزال طالباً في المتوسطة، و كانت العائلة المنشعلة بالمسلسلات المصرية و العراقية تتعرض دائما ً لتوبيخات والدي، انني لاتذكر جيداً كيف كان يأتي أحياناً وفي يده مجلة ما ثم يحرضنا على قراءة ما كتبه الناقد قاسم عجام عن مسلسل ما، كنا تابعناه، معتبراً المقال أشبه بكلمة تملك سلطة الحكم النهائي حول قيمة الاعمال الدرامية التي يعرضها التلقزيون. ما ينبغي التركيز عليه الان أنه لم يكن للرجل أن يحوز مثل هذا التأثير من فراغ، كلا، والدليل على ذلك أن عشرات النقاد كانوا برزوا في الفترة نفسها التي برز فيها عجام، لكن القليلين منهم بلغوا ما بلغه الرجل من احترام، لا بين أوساط جيله، أنما بين أوساط الاجيال التالية أيضاً، وليس أدل على ذلك من مظاهر الاحترام التي غالباً ما يحاط بها في التجمعات و الملتقيات والندوات. في المربد الاخير كان عجام حاضراً، كان يكتفي بالابتسامة أحياناً، لكن ما إن يشرع الحوار الفكري الرصين حتى تراه منغمساً فيه بجوارحه كلها. اليوم صباحاً، و فيما كنت أتأمل في غيابه المباغت و الصادم، حدثني أحد أصدقائه وهو الشاعر رعد كريم عزيز، عن بعض صفاته الشخصية التي قال أنها " مركبة " و منها – مثلاً – حادثة كان هو بطلها: في إحدى المهرجانات الشعرية، يقول عزيز، صادف أن كنا نزلاء غرفة واحدة، كان معنا شاعر ثالث، يقول الشاعر رعد عزيز، أن المفارقة في شخصية قاسم عجام أنه كان يؤدي طقوسه الدينية في الغرفة نفسها، و مع هذا لم يبدو عليه أي انزعاج من جلسة " سكر " اقيمت في الغرفة، كان يشاركنا بروحه و انفتاحه الهائل حتى أنه أخذ رمانة و راح يأكلها لنشعر بالالفة.
بهذه الروح العظيمة، و بهذه الصفات و السلوك، استطاع قاسم عجام أن يحوز لنفسه احتراماً كان يتوق اليه الكثيرون حد انه نأى عن ثقافة الدكتاتورية البغيضة طوال تسلطها. كان، بالاحرى، إنموذجاً مثالياً للمثقف الذي تتماهى فيه الثقافة الراقية بالسلوك، لم يكن بالامكان تجزئة شخصه بين قيمتين متناقضتين، و لعل هذا ما يفسر إصراره، طوال حياته، على الالتزام بقيم يبدو من الصعب الاستمرار بالتمسك بها، قيم مثل عدم الاندراج في المشهد الخرب الذي ساد العراق منذ نهاية السبعينات . انذاك، كان هاجر أقرانه من يساريي العراق، و كان عجام من القلائل الذين قرروا البقاء في الوطن، بيد أن بقاءه لم يكن يعني الاستجابة للضغوط. على العكس, فقد ساهم الرجل بإبقاء بصيص الامل متاحاً هو وبضعة مبدعين اخرين أمثال محمد خضير و عبد الرحمن طهمازي و غيرهما.
الان، لنا أن نتوقف عن التذكر لنتأمل، نتساءل، نعيد الاعتبار للحيرة، لنا أن نتأهب للموت، فالايدي التي اغتالت عجام عمياء لدرجة اللعنة، إنها لا تميز بين المحارب و الشاعر ولا بين المرأة و الرجل، لا تميز بين الاب و الابن، و لا ببن الاميركي و العراقي، إنها يد عمياء، متعصبة، إصولية و ملوثة. علينا ألا نستهين بها و لا باللثام الذي يواريها، علينا ألا نستهين بالبندقية التي تخرج في الظلام، و لابالخنجر المخبأ تحت سلة الخبز، الدم ما زال يتدفق و الاحشاء الجميلة تسيح في إتون الارهاب. شخصياً، فإنني لا أمتلك مسدساً من أي نوع سأظل مرتاباً، هائجاً ما ظلت رائحة دماء قاسم عبد الامير عجام تسد علي رئتي ّ، لن أنساها، إنها قوية تصرخ ... و معها الالاف يصرخون. *النص كتبه الناقد والصحافي محمد غازي الاخرس في اليوم التالي لاغتيال قاسم عجام، ونشره في صحيفة"بغداد"، حين كان رئيسا لقسمها الثقافي، والعنوان الاصلي للنص كان "الرصاص يحل بديلاً عن الحوار..الناقد قاسم عبدالامير يقتل أمام داره في مدينة الحلة". |