علي عبد الأمير
يقدم لنا العازف والباحث الأستاذ حسام الدين الأنصاري، مؤشرات مهمة عن الحياة الموسيقية والثقافية في العراق خلال أكثر من نصف قرن، عبر كتابه القيم "تأريخ الفرقة السمفونية الوطنية العراقية 1962-2012"، فضلا عن وثائق نادرة تتعلق بتلك الفترة العاصفة. وعلى الرغم من وفرة تلك المؤشرات الموثقة، غير أنها تظل خالية من نسق نقدي ثقافي، افتقر اليه الكتاب لأسباب عدة تتعلق برؤية المؤلف خصوصا، وباحتقار الموقف النقدي في الأوساط الاجتماعية والثقافية العراقية عموما. وفي مراجعة لمرحلة تأسيس الفرقة السمفونية العراقية، نجد تفاصيل جوهرية تبدأ من تأسيس فرقة موسيقية من عازفي الآلات الوترية بقيادة الأب الحقيقي للموسيقى الحديثة في العراق، حنا بطرس، 1936، وصولا إلى مشاركته في "جماعة بغداد الفلهارمونيك" العام 1948 والتي تعتبر التأسيس الحقيقي للفرقة السمفونية والذي أعلن رسميا في العام 1952 (تقدمت الجماعة بطلب إلى وزارة الداخلية للحصول على إجازة تمنحها الصفة الرسمية لمزاولة عملها الفني)، لكنه ظل نتاجا أهليا يعبر عن حيوية جاءت "نتيجة للوعي الثقافي والفني اللذين بدءا يتبلوران في المجتمع آنذاك بين الشباب الذين درسوا في الكليات والمعاهد العراقية وقدوم مجموعة من طلبة الفن من الخارج ممن تميزوا بالموهبة والحماس"(1).
الزعيم الركن إسماعيل العارف: تأميم السمفونية تلك الحفاوة الاجتماعية الأهلية بنسغ ثقافي مغاير اسمه النغم الغربي الرصين، تواصلت حتى العام 1959، حين صارت الفرقة التي كانت تحت رعاية وزارة المعارف العراقية بحكم كونها تضم عازفين هم بالأساس أساتذة في "معهد الفنون الجميلة" التابع للوزارة، ومنهم سغفريد شتولده الذي تولى قيادة الفرقة حتى سفره العام 1961، لينفرط عقدها حتى أيلول العام التالي، حين قرر وزير الإرشاد الزعيم الركن إسماعيل العارف، وهو من ضباط الحركة العسكرية "الثورية" التي أطاحت بالحكم الملكي، "تأميم" الفرقة السمفونية وجعلها حكومية وإنهاء كونها مجموعة ثقافية أهلية.
قدر يبدو قرار الزعيم الركن العارف(2)، منقذا للفرقة من حال التشتت وضعف الدعم وفتور الحماسة، لكن حيثيات القرار ومبرراته الحقيقية، تكشف عن المعنى المخيف لسيطرة الحكومة على الثقافة، وهو ما رسخته حكومات النظام الجمهوري المتعاقبة حتى اليوم، معنى ان تكون الثقافة بوقا حكوميا ووسيلة دعائية فجة. فقرار تأسيس الفرقة السمفونية بوصفها تكوينا ثقافيا حكوميا، جاء سعيا من الأخيرة للظهور بمظهر المحتفي بالثقافات الرصينة، حين استضافت مهرجانا كبيرا هو "الذكرى الألفية لتأسيس مدينة بغداد وذكرى الفيلسوف الكندي"، أحيت فيه الفرقة حفلتين على مسرح قاعة الخلد، كانت الأولى في 5 كانون الأول/ ديسمبر 1962 وشهدت عزف "افتتاحية بغداد" التي كتبها المايسترو جورج مان.
العميد (الزعيم) الركن دريـد الدملوجي: إلغاء السمفونية سيطرة الحكومة على الفرقة السمفونية جعلها واقعيا، تشكيلا وظيفيا تابعا لها من الناحية الإدارية، ومنسجما مع توجهاتها من ناحية الخطاب السياسي والفكري. ومع التطبيق الحقيقي لمبدأ "الثورة تأكل أبناءها"، الذي أكده نظام 14 تموز 1958، جاء حكم عسكري في إنقلاب شباط/فبراير 1963 بموجة أكثر دموية وعنفا من الموجة الأولى، لكن ظل أمينا على تقليد "ثوري" يتمثل بإسناد العمل الفكري والثقافي للعسكر، فوصل لمنصب وزارة الإرشاد (الثقافة والإعلام لاحقا) ضابط برتبة عميد (زعيم) ركن أيضا، هو دريد الدملوجي، الذي جاء منسجما مع فكرة "الثورة تأكل أبناءها" فاذا كان وزير المعارف الأسبق، الزعيم الركن اسماعيل العارف قام بتأميم الفرقة السمفونية، فالوزير الجديد (آنذاك) لا بد له من مخالفة وزير الحكم الذي انقلب عليه، فقام بإلغائها.
العميد الركن دريـد الدملوجي وضمن منهج عسكرة الثقافة والمجتمع الذي جاء به العهد الجمهوري شغل العام 1965 منصب مدير عام وكالة الانباء العراقية(3) ثم منصب وزير الإرشاد في حكومة رئيس الوزراء (من الضباط الثوريين ايضا) ناجي طالب 1966 لـ"المحافظة على الخط القومي والمسیرة القومیة"، مع إقرار طالب إن الدملوجي لم یكن یتمتع بخبرة صحافیة أو ثقافية(4).
لنلاحظ ما بدا رابطا بين " المحافظة على الخط القومي والمسیرة القومیة" أيام صعود الخطاب الناصري وصداه عراقيا عبر حكم عبد السلام عارف، وقرار الوزير الدملوجي الذي بدأ بجملة تضليلية صارت جوهرية في ثقافة الحكم العراقي وتحديدا الجمهوري منه: "مقتضيات المصلحة العامة"! فالمسيرة القومية كانت في تجلياتها السياسية المباشرة ممثلة لروح العسكر الثورية في المعادية للمعرفة المدنية والتحضر الثقافي وبخاصة ما كان غربيا منه، بذريعة "تأصيل الوطنية والأفكار الشعبية". أما عودة الفرقة السمفونية العراقية إلى العمل مرة أخرى، فلنا معها قصة تالية.
هوامش: (1)و(2): "تأريخ الفرقة السمفونية الوطنية العراقية 1962-2012" (كتاب)، حسام الدين الأنصاري، بغداد 2012. (3): "عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته"، تأليف الدكتور صبحي ناظم توفيق عرض وتلخيص: هارون محمد، مقالات متسلسلة في صحيفة "القدس العربي". (4) الذاكرة العراقیة لیست انتقائیة (الجزء الأول)، د .ملیح صالح شكر، مواقع الكترونية.
|